فصل: فصل في سر العبودية وغايتها وحكمتها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهاتان الطائفتان متقابلتان أشد التقابل وبينهما أعظم التباين.
فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطا بالجزاء ألبتة وجوزت أن يعذب الله من أفنى عمره في طاعته وينعم من أفنى عمره في معصيته وكلاهما بالنسبة إليه سواء وجوزت أن يرفع صاحب العمل القليل على من هو أعظم منه عملا وأكثر وأفضل درجات والكل عندهم راجع إلى محض المشيئة من غير تعليل ولا سبب ولا حكمة تقتضي تخصيص هذا بالثواب وهذا بالعقاب.
والقدرية أوجبت على الله سبحانه رعاية الأصلح وجعلت ذلك كله بمحض الأعمال وثمنا لها وأن وصول الثواب إلى العبد بدون عمله فيه تنغيص بإحتمال منة الصدقة عليه بلا ثمن.
فقاتلهم الله ما أجهلهم بالله وأغرهم به جعلوا تفضله وإحسانه إلى عبده بمنزلة صدقة العبد على العبد حتى قالوا إن إعطاءه ما يعطيه أجرة على عمله أحب إلى العبد وأطيب له من أن يعطيه فضلا منه بلا عمل.
فقابلتهم الجبرية أشد المقابلة ولم يجعلوا للأعمال تأثيرا في الجزاء ألبتة.
والطائفتان جائرتان منحرفتان عن الصراط المستقيم الذي فطر الله عليه عباده وجاءت به الرسل ونزلت به الكتب وهو أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب مقتضية لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها وأن الأعمال الصالحة من توفيق الله وفضله ومنه وصدقته على عبده إن أعانه عليها ووفقه لها وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها وحببها إليه وزينها في قلبه وكره إليه أضداها ومع هذا فليست ثمنا لجزائه وثوابه ولا هي على قدره بل غايتها إذا بذل العبد فيها نصحه وجهده وأوقعها على أكمل الوجوه أن تقع شكرا له على بعض نعمه عليه فلو طالبه بحقه لبقى عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بشكرها فلذلك لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا نفى النبي صلى الله عليه وسلم دخول الجنة بالعمل كما قال لن يدخل أحدا منكم الجنة عمله وفي لفظ لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله وفي لفظ لن ينجى أحدا منكم عمله قالوا: «ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» وأثبت سبحانه دخول الجنة بالعمل كما في قوله: [16: 32]: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ولا تنافي بينها إذا توارد النفي والإثبات ليس على معنى واحد فالمنفي استحقاقها بمجرد الأعمال وكون الأعمال ثمنا وعوضا لها ردا على القدرية المجوسية التي زعمت أن التفضل بالثواب ابتداء متضمن لتكرير المنة. وهذه الطائفة من أجهل الخلق بالله وأغلظهم عنه حجابا وحق لهم أن يكونوا مجوس هذه الأمة ويكفي في جهلهم بالله: أنهم لم يعلموا أن أهل سمواته وأرضه في منته وأن من تمام الفرح والسرور والغبطة واللذة: اغتباطهم بمنة سيدهم ومولاهم الحق وأنهم إنما طاب لهم عيشهم بهذه المنة وأعظمهم منه منزلة وأقربهم إليه: أعرفهم بهذه المنة وأعظمهم إقرارا بها وذكرا لها وشكرا عليها ومحبة له لأجلها فهل يتقلب أحد قط إلا في منته 49: 17: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
واحتمال منة المخلوق: إنما كانت نقصا لأنه نظيره فإذا من عليه استعلى عليه ورأى الممنون عليه نفسه دونه هذا مع أنه ليس في كل مخلوق فلرسول الله صلى الله عليه وسلم المنة على أمته وكان أصحابه يقولون: الله ورسوله أمنّ ولا نقص في منة الوالد على ولده ولا عار عليه في احتمالها وكذلك السيد على عبده فكيف برب العالمين الذي إنما يتقلب الخلائق في بحر منته عليهم ومحض صدقته عليهم بلا عوض منهم ألبتة؟ وإن كانت أعمالهم أسبابا لما ينالونه من كرمه وجوده فهو المنان عليهم بأن وفقهم لتلك الأسباب وهداهم لها وأعانهم عليها وكملها لهم وقبلها منهم على ما فيها؟ وهذا هو المعنى الذي أثبت به دخول الجنة في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
فهذه باء السببية ردا على القدرية والجبرية الذين يقولون: لا ارتباط بين الأعمال والجزاء ولا هي أسباب له وإنما غايتها أن تكون أمارات.
قالوا: وليست أيضا مطردة لتخلف الجزاء عنها في الخير والشر فلم يبق إلا محض الأمر الكوني والمشيئة.
فالنصوص مبطلة لقول هؤلاء كما هي مبطلة لقول أولئك وأدلة المعقول والفطرة أيضا تبطل قول الفريقين وتبين لمن له قلب ولب: مقدار قول أهل السنة وهم الفرقة الوسط المثبتون لعموم مشيئة الله وقدرته وخلقه العباد وأعمالهم ولحكمته التامة المتضمنة ربط الأسباب بمسبباتها وانعقادها بها شرعا وقدرا وترتيبها عليها عاجلا وآجلا.
وكل واحدة من الطائفتين المنحرفتين تركت نوعا من الحق وارتكبت لأجله نوعا من الباطل بل أنواعا وهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه 2: 213: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} و{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.

.فصل في فائدة العبادة:

الصنف الثالث: الذين زعموا أن فائدة العبادة رياضة النفوس واستعدادها لفيض العلوم عليها وخروج قواها عن قوى النفوس السبعية والبهيمية فلو عطلت عن العبادات لكانت من جنس نفوس السباع والبهائم والعبادات تخرجها عن مألوفاتها وعوائدها وتنقلها إلى مشابهة العقول المجردة فتصير عالمة قابلة لانتقاش صور العلوم والمعارف فيها وهذا يقوله طائفتان.
إحداهما: من يقرب إلى النبوات والشرائع من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وعدم إنشقاق الأفلاك وعدم الفاعل المختار.
الطائفة الثانية: من تفلسفت من صوفية الإسلام وتقرب إلى الفلاسفة فإنهم يزعمون أن العبادات رياضات لإستعداد النفوس وتجردها ومفارقتها العالم الحسى ونزول الواردات والمعارف عليها.
ثم من هؤلاء من لا يوجب العبادات إلا لهذا المعنى فإذا حصل لها بقي مخيرا في حفظه أورده أو الإشتغال بالوارد عنها ومنهم من يوجب القيام بالأوراد والوظائف وعدم الإخلال بها وهم صنفان أيضا.
أحدهما: من يوجبونه حفظا للقانون وضبطا للنفوس.
والآخرون: الذين يوجبونه حفظا للوارد وخوفا من تدرج النفس بمفارقتها له إلى حالتها الأولى من البهيمية.
فهذه نهاية أقدام المتكلمين على طريق السلوك وغاية معرفتهم بحكم العبادة وما شرعت لأجله ولا تكاد تجد في كتب القوم غير هذه الطرق الثلاثة على سبيل الجمع أو على سبيل البدل.

.فصل في الطائفة المحمدية الإبراهيمية:

وأما الصنف الرابع: فهم الطائفة المحمدية الإبراهيمية أتباع الخليلين العارفون بالله وحكمته في أمره وشرعه وخلقه وأهل البصائر في عبادته ومراده بها.
فالطوائف الثلاث محجوبون عنهم بما عندهم من الشبه الباطلة والقواعد الفاسدة ما عندهم وراء ذلك شيء قد فرحوا بما عندهم من المحال وقنعوا بما ألفوه من الخيال ولو علموا أن وراءه ما هو أجل منه وأعظم لما ارتضوا بدونه ولكن عقولهم قصرت عنه ولم يهتدوا إليه بنور النبوة ولم يشعروا به ليجتهدوا في طلبه ورأوا أن ما معهم خير من الجهل ورأوا تناقض ما مع غيرهم وفساده.
فتركب من هذه الأمور إيثار ما عندهم على ما سواه وهذه بلية الطوائف والمعافى من عافاه الله.

.فصل في سر العبودية وغايتها وحكمتها:

فاعلم أن سر العبودية وغايتها وحكمتها إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب عز وجل ولم يعطلها وعرف معنى الإلهية وحقيقتها ومعنى كونه إلها بل هو الإله الحق وكل إله سواه فباطل بل أبطل الباطل وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له وأن العبادة موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها وارتباطها بها كإرتباط متعلق الصفات بالصفات وكإرتباط المعلوم بالعلم والمقدور بالقدرة والأصوات بالسمع والإحسان بالرحمة والعطاء بالجود.
فمن أنكر حقيقة الإلهية ولم يعرفها كيف يستقيم له معرفة حكمة العبادات وغاياتها ومقاصدها وما شرعت لأجله؟ وكيف يستقيم له العلم بأنها هي الغاية المقصودة بالخلق والتي لها خلقوا ولها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب ولأجلها خلقت الجنة والنار؟ وأن فرض تعطيل الخليقة عنها نسبة لله إلى ما لا يليق به ويتعالى عنه من خلق السماوات والأرض بالحق ولم يخلقهما باطلا ولم يخلق الإنسان عبثا ولم يتركه سدى مهملا قال تعالى 23: 115: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} أي لغير شيء ولا حكمة ولا لعبادتي ومجازاتي لكم وقد صرح تعالى بهذا في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فالعبادة: هي الغاية التي خلق لها الجن والإنس والخلائق كلها قال الله تعالى 75: 36: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} أي مهملا قال الشافعي: لا يؤمر ولا ينهى وقال غيره لا يثاب ولا يعاقب والصحيح الأمران فإن الثواب والعقاب مترتبان على الأمر والنهي والأمر والنهي طلب العبادة وإرادتها وحقيقة العبادة امتثالهما وقال تعالى 3: 191: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وقال: 15: 85: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَق} وقال 45: 22: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}.
فأخبر أنه خلق السماوات والأرض بالحق المتضمن أمره ونهيه وثوابه وعقابه.
فإذا كانت السماوات والأرض وما بينهما خلقت لهذا وهو غاية الخلق فكيف يقال: إنه لا علة له ولا حكمة مقصودة هي غايته؟ أو إن ذلك لمجرد استئجار العباد حتى لا ينكد عليهم الثواب بالمنة أو لمجرد استعداد النفوس للمعارف العقلية وارتياضها بمخالفة العوائد؟
فليتأمل اللبيب الفرقان بين هذه الأقوال وبين ما دل عليه صريح الوحي يجد أن أصحاب هذه الأقوال ما قدروا الله حق قدره ولا عرفوه حق معرفته فالله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبته مع الخضوع له والإنقياد لأمره.
فأصل العبادة: محبة الله بل إفراده بالمحبة وأن يكون الحب كله لله فلا يحب معه سواه وإنما يحب لأجله وفيه كما يجب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه فمحبتنا لهم من تمام محبته وليست محبة معه كمحبة من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحبه.
وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله علما عليها وشاهدا لمن ادعاها فقال تعالى 3: 31: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} فجعل اتباع رسوله مشروطا بمحبتهم لله وشرطا لمحبة الله لهم ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحققه فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله وانتفاء المتابعة ملزوم لإنتفاء محبة الله لهم فيستحيل إذا ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله.
ودل على أن متابعة الرسول هي حب الله ورسوله وطاعة أمره ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه ألبتة ولا يهديه الله قال الله تعالى 9: 24: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَال اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَة تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.
فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه أو معاملة أحدهم على معاملة الله: فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وإن قاله بلسانه فهو كذب منه وإخبار بخلاف ما هو عليه وكذلك من قدم حكم أحد على حكم الله ورسوله فذلك المقدم عنده أحب إليه من الله ورسوله لكن قد يشتبه الأمر على من يقدم قول أحد أو حكمه أو طاعته أو مرضاته ظنا منه أنه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلا ما قاله الرسول فيطيعه ويحاكم إليه ويتلقى أقواله كذلك فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول وعرف أن غير من اتبعه هو أولى به مطلقا أو في بعض الأمور ولم يلتفت إلى الرسول ولا إلى من هو أولى به فهذا الذي يخاف عليه وهو داخل تحت الوعيد فإن استحل عقوبة من خالفه وأذله ولم يوافقه على اتباع شيخه فهو من الظلمة المعتدين وقد جعل الله لكل شيء قدرا.